الخميس، 23 يوليو 2020


الصراع الأذري الأرميني... والانزلاق نحو الهاوية
                                                                 د. جواد كاظم البيضاني
    ربما تكون الاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا ليست أمراً جديداً. فالأعمال العدائية بين الجانبين بدأت حتى قبل أن تنشأ الحدود الدولية بينهما. ويبدو ان الذي يميز هذه الفترة من الصراع هي عدم احتدامه، وتحوله إلى اشتباك مباشر، والاكتفاء بقصف متبادل ، خارج مناطق الصراع التقليدي، ولرسم صورة عن هذه الأحداث لا بد من بيان أسبابها.
     كما هو معلوم فان منطقة جنوب القوقاز تقع في محيط جغرافي عالي التنافسية، إذ يضم روسيا وإيران وتركيا، مع تواجد إسرائيلي أمريكي واضح ومعلن. وتدرك دول جنوب القوقاز ما تتمتع به من مزايا يوفرها موقعها الجيوسياسي على مفترق طرق التجارة والطاقة الرئيسية بين الشرق والغرب،  فضلاً عن كونها ممراً شديد الأهمية لمجموع المنطقة التي تقع فيها. وفي محيط كهذا فإن القدرة على بناء سياسة خارجية فعالة ومتوازنة، مسألة تتجاوز فن بناء العلاقات الدولية، وتصبح فناً للبقاء.
    وتبحث أذربيجان عن تفوق عسكري، وترى ان تطوير علاقتها مع إسرائيل يمكنها من حماية أمنها الداخلي، ويساهم في دفاعها عن نفسها، واستعادة الأراضي التي تنازع أرمينيا عليها،  فقد نشرت مجلة (فورين بوليسي) الأميركية المتخصصة بالشؤون الخارجية تقريرا أشارت فيه إلى أن إسرائيل وجدت موطأ قدم في القواعد الجوية الاذرية.
   يقول كاتب التقرير إن نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الأميركية في باكو( دونالد لو) بعث في عام 2009 برقية إلى وزارة الخارجية بعنوان (التكافل الأذري الإسرائيلي المكتوم) كشف ويكيليكس مضمونها لاحقا. وينقل (لو) في برقية عن الرئيس الأذري إلهام علييف وصفه لطبيعة علاقة بلاده بإسرائيل بأنها مثل جبل جليدي يغوص (تسعة أعشاره تحت سطح الماء)، ويبدو أن هذه العلاقات قد تعززت بشكل كبير، فقد تم توقيع صفقة بقيمة (106) مليار دولار تبيع تل أبيب بموجبها إلى باكو طائرات بدون طيار وأنظمة دفاع، ويبدو ان هناك تعاون استراتيجي بين باكو وتل ابيب بدأ واضحاً من خلال الحرب الأخيرة التي خاضتها أذربيجان مع أرمينيا في 12 يوليو تموز 2020م، فـ (تل أبيب) تستهدف النقاط القريبة من إيران، وأذربيجان تسعى لعودة خارطة النزاع إلى سابق عهدها مع أرمينيا، فهل ينجح الاذر في تحقيق ذلك؟ وماذا عن إيران؟
   لا أتحدث عن الصراع الإيراني الإسرائيلي.  واكتفي بتصوير الصراع الاذري الارمني الأخير الذي بدأ يوم الأحد المواق 12/ 7/ 2012م، حيث بلغ عدد القتلى (16) من كلا الطرفين، وهذا العدد مرشح للزيادة، ولعل هذه الاشتباكات الأعنف منذ سنوات، فقد استخدمت فيها الأسلحة التقليدية من مدفعية، وصواريخ، ومدافع هاون، وطائرات.
  كانت نقطة الصراع هذه المرة بعيداً عن (ناغورني قره باخ). المصادر الأمنية تحدثت عن خرق حدودي ومحاولات الاستيلاء على أراضي أرمينية. وأذربيجان تقول ان الأرمن اعترضوا دورية اذرية في اراضيهم بمنطقة (تافوش) وامطروها بوابل من القذائف وتسبب ذلك بقتل من فيها، أرمينيا كذبت الخبر وبينت ان الاذر كانوا يعدون العدة لمهاجمة هذه المنطقة والسيطرة عليها.
 ومع احتدام الصراع بدأت الاطراف الدولية تدعوا الى ضبط النفس، والتهدئة، ودعت وزارة الخارجية الروسية والفرنسية والامريكية الى انهاء الاعمال العسكرية ، والركون الى السلم والتفاوض لانهاء المشاكل العالقة بين البلدين، غير ان هناك اطراف دولية كانت تدعوا الى غير ذلك، فتركيا ووفقاً لبيان اصدرته وزارة الخارجية التركية دعت الى  مساندة اذربيجان والوقوف معها، ووضع كل المتطلبات اللوجستية تحت تصرفها . فهل انطلقت تركيا من موقف ديني قومي  كما وصف ذلك البعض، ام أن هناك خفايا وأسرار تدفع تركيا لاتخاذ مثل هذه القرارات؟
  كثير من المحللين يرون ان تركيا بحكم انتمائها القومية تجد نفسها مرغمة على الدفاع عن ابناء جلدتها من الاذر ، ووقوفها مع اذربيجان يعني وقوفها مع امتدادها العرقي والديني ، وعبر عن ذلك وزير الدفاع التركي ، الذي قال إن معركة اذربيجان هي معركتنا ، ولا يختلف  وزير الخارجية عن باقي المسئولين الأتراك فهو الاخر أبدى استعداد تركيا لدعم اذربيجان عسكريا وسياسياً ومعنوياً. فهل تقف تركيا مع أشقائها الاذر كما جاء في بيان الرئاسة التركية ؟ وما هو مستوى الدعم الذي تستطيع تركيا تقديمه الى اذربيجان؟

    لا شك ان تركيا قدمت دعماً كبيراً إلى اذربيجان من خلال إشرافها وتدريبها للقوات المسلحة الاذرية، فضلاً عن تزويد اذربيجان بالأسلحة والمعدات الفنية ، فالمنفعة الاقتصادية باتت واضحة بين الطرفين ، وقد تحدث عن ذلك الرئيس التركي اوردغان الذي صرح  بان بلاده تسعى الى رفع التبادل التجاري مع أذربيجان الى (15) مليون دولار، والحقيقة ان اذربيجان تعتمد على الصناعة التركية بشكل كبير، وتركيا تعتمد على  مصادر الطاقة الاذرية ، ويبدو ان رغبة تركيا في الحصول على مصادر الطاقة بأسعار مناسبة، وربما مجانية هو عنصر مهم في موقفها الأخير، ولعلها تدرك ان مراهنة ارمينيا على اعترف العالم بالابادة هو المحرك لموقفها التفاعلي مع اذربيجان وشجبها للرد الارمني. فمن غير المعقول جهل تركيا بتحديد مصادر القوة في ارمينيا وتزويد حلفائها الاذر بمعلومات عن تحركات القوات الارمنية ، وتعريفهم بمواطن القوة والضعف. فهل تجهل تركيا حقاً تقدير جهوزية القوات الارمينية! واذا كانت على دراية بهذه القوات فلماذا لم تحذر اذربيجان من قوة الرد الارمني؟ وما هي الأسباب التي دفعت اذربيجان بإثارة هذه الأزمة في هذا الوقت؟ وهل الصراع في منطقة القوقاز هو اذري ارمني، ام هناك أبعاد أخرى ؟
  في يوم الخميس الموافق 16/ تموز / 2020 اجتمع الرئيس المصري مع زعماء القبائل الليبية وتحدث معهم بشكل صريح وقال ان :" منطقة سيرت تمثل خط احمر للقوات التركية وحكومة الوفاق " وسيرت في هي الخط المتقدم للهلال النفطي في ليبيا، ودعم اوردغان لحكومة الوفاق جاء على أساس الاستحواذ على مصادر الطاقة هناك ، والتحكم بها وهذا الامر يشكل تهديد كبير للحكومة المصرية التي بادرت الى تحذير تركيا ، والظاهر ان تشاطر المصالح بين روسيا التي تريد تعزيز تواجدها في المتوسط  وتحجيم دور تركيا المتصاعد، ومصر التي تشعر بقلق من هذه التطورات عامل مهم دفع المصريين والروس للعمل على تحجيم اوردغان . فهل يرضى اوردغان ذلك ؟
   يبدو ان اوردغان بدأ يخطط من خلال إثارة متاعب لروسيا ولمصر ودفعهما الى الابتعاد عن حليفهم حفتر والانفراد بقواته، والإجهاز عليه، خاصة وان طلائع المرتزقة السوريين من جبهة النصرة وقوات داعش بدأت تصل الى منطقة مصراته في غرب ليبيا بشكل كبير . فما هي السبل التي توقف المد المصري وتشغل روسيا بهذا الشكل الذي يسهل على اوردغان مهامه في السيطرة على الهلال النفطي خاصة وانه صرح ان قواته لم تتوقف إلا بعد اجتياح هذا المثلث والسيطرة على كل التراب الليبي.
    أمام اوردغان خيارات عديدة: اما افتعال مجابهة مباشرة مع روسيا في سوريا ، او التحرك على روسيا ومنعها من التدخل في ليبيا، او الاكتفاء بما حققه في طرابلس. وهذا الامر غير مقنع له ، فقواته التي قطعت الاف الكيلومترات لا يمكن ان تركن الى طرابلس دون الاستحواذ على سيرت وما بعدها ، وهنا بدأت اللعبة أكثر وضوح فالصراع في المنطقة هو صراع مصالح ، وكان على روسيا ان لا توسع مصالحها إلى خارج سوريا فالتنازلات في سوريا كانت بثمن ، وقد تخلت تركيا عن بعض امتيازاتها هناك ، وكان هدفها التمدد إلى ما بعد حلب وتحجيم الدور الكردي في هذه المناطق التي تعرف بشمال وشمال شرق سوريا.، بيد ان التفاهمات السياسية هي التي اوقفتها بالتمدد إلى اهدافها التي رسمتها لاحقاً، ولعله فضل الانتقال إلى ليبيا التي تشهد صراع بين المد السلفي المؤدلج وبين حركة الإخوان العالمية التي تتزعمها تركيا.
   من الواضح ان الرئيس اوردغان يعتمد في توسعه العسكري على مجموعات عسكرية خاضت حروب في العراق وسوريا وهي في أعمها الاغلب تتحمل مسؤولية عمليات القتل الطائفي في سوريا وفي العراق، بل انها مسئولة عن إبادة الايزيدية في سنجار، هذه المجموعات التي تتلقى دعماً مطلقاً من تركيا تم تحريك بوصلة عملها نحو ليبيا وأضيف اليهم مقاتلين من الصومال والسودان وتونس والعراق والمغرب بل وحتى مصر وكل هؤلاء من الإرهابيين المرفوضين في بلدانهم، وقسم منهم هرب إلى تركيا بعد تحرير الموصل، وبالتالي استطاع ارودغان من تأسيس قوة مؤلفة من فرقتين بقوام (4) ألوية يسعى إلى دمجها في مصراته واعداد جيش جديد يستقدمه للهجوم على الشريط النفطي. والسيطرة عليه تتيح له التحرك نحو أهداف اخرى في الجزائر ومصر خاصة وان هناك مؤيدين له في هذه الدول
   لقد نجح اوردغان في كسب عطف اعداد من العرب بعد ان اعاد ايا صوفيا مسجداً ، وحصل على دعماً متناهياً  بين المسلمين بعدد دعمه لمطالب الايغور وموقفه من مسلمين بورما ، ولا يخفى فان سياسة الغرب تجاه المسلمين من العوامل التي ساعدت في كسب هذا التأييد في الشارع العربي والإسلامي ، بعد سياسة الإكراه التي اتخذتها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ضد المسلمين. ولعل هذا الأمر هو الذي حفزه على التدخل في الشأن العراقي والليبي والسوري بعد ان ضجر الناس بحكومات انتفاعية عميلة فاسدة تسير بتوجيه خارجي وبذلك تدخل في ليبيا. وهو يتجه الان بكل قوة نحو السيطرة على ليبيا لتكون مستقراً في أعدة أحلامه ، ويبدو ان هناك ضوء من الإدارة الامريكية واسرائيل في هذه الخطوات التصعيدية. ولتحييد مصر والروس تدخلت الدول الساندة لاوردغان من اجل اشغال هذه الدول فتم تفعيل  قضية سد النهضة ومحاولة إشغال روسيا بالصراع الارمني الاذري، خاصة وان هذه المنطقة من اكثر المناطق الحساسة بالنسبة لموسكو.
فالصراع الذي تجدد في جنوب القوقاز تجدد بارادات خارجية هذه المرة لاختبار روسيا التي تمثل أرمينيا اخر معقل لها في جنوب القوقاز ، ومن غير ادنا شك فان روسيا هي الضمانة الوحيدة لحماية أرمينيا عسكرياً في مواجهة اطماع اذربيجان ، وتركيا التي تحاول تصفية القضية الارمنية، وبالتالي فإنّ أيّ محاولة للإخلال بالعلاقة مع موسكو سيمثل بالنسبة إلى الأرمن قفزة حرة في اتجاه الهاوية.
ان اشغال موسكو بات ممكن في هذا الجزء ، ولكن من غير الممكن ان تترك روسيا لاوردغان حرية التصرف في هذه المنطقة بعد ان أدركت روسيا ومصر ماذا يعني سيطرة اوردغان على ليبيا، اللعبة لم تنتهي بعد ، وبدأ الدرس الاول منها وأرى انه سيكون قاسي لاوردغان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق