الخميس، 23 يوليو 2020


تفكيك الإلغاز  بموضوعية الشواهد.... رؤية جديدة لأحداث آذار 1959

د. جواد كاظم البيضاني
 
)    الحركة القومية الكردية) عنوان الكتاب الاول الذي قرأته  للدكتور عبد الفتاح بوتاني ، كان ذلك في سنة 2004، يومها كنت طالب دراسات عليا، وبدأت معرفتي به مع هذا الكتاب، كانت لغة الكتاب علمية وطرح مصنفه موضوعي، والذي شدني في هذا الكتاب أنماط القراءة التاريخية لوقائع الأيام وأحداثها ، فلم يسلك بوتاني في هذا الكتاب المنهج التبسيطي الوصفي، بل مزج بين الاستدلال التحليلي والوصف الاستقرائي، وبذلك خرج عن النمطية المتبعة في الوصف لدى كثير من المؤرخين، فالتاريخ ليس استقراء للأحداث وبيان أسباب وقوعها وترقيم تواريخها ، انما هو تمحيص وتدقيق وتحليل، فالمؤرخ يبدأ عمله التأليفي بمجرد أن ينتهي نقد الشواهد على الحوادث، وفق ذلك خرج هذا الكتاب من تلك النمطية القاتلة رغم لغته العلمية الصعبة.

   وتعززت علاقتي مع الدكتور بوتاني بعد إتمام دراستي العليا، وبدأت اجمع مصنفاته ومقالاته واقرأها بعلمية. كان الرجل قومياً متنوراً، وباحثاً قديراً لا يخلوا نتاجه العلمي من النقد البناء للظواهر السياسية التي يكون في تماس معها،  ومثل هؤلاء المؤرخين قلة، ففي السياق التقليدي نجد المؤرخ يغلب الانتماءات الضيقة على قواعد المنهجية التاريخية وأصولها، وهذا ليس تعميم ، وانما صفة لبعض المؤرخين. وإذا كانت قواعد التحليل الموضوعي تختلف وتتباين بين المؤرخين، ولكل مؤرخ رؤيته التي يتميز بها عن اقرانه.  فبماذا تميز بوتاني؟ 
 
   وضع عبد الفتاح بوتاني بعض اللمسات على جزئيات المنهجية التي تميز بها عن اقرانه، فكانت الوثيقة التاريخية مادتهُ في معالجة الضبابية التي ترافق بعض الروايات التاريخية ، فوضع الوثيقة داخل المتن، وبحث في مواطنها  وأخضعها الى النقاش العلمي ، لتكون جزءاً من محتوى المتن بعد أن كانت جزء من الملاحق توضع في نهاية الكتاب .  نعم هذا الأسلوب في القراءة التاريخية متعب لكنه جديد، وهو منهج علمي يعتمد المقارنة بين الخبر المنقول والوثيقة ، يقترب فيه المؤرخ الى إيضاح الحقائق بواقعية  ،  ونقد مقارن بين نقيضين يرسمان صورة لأحداث مشوهة لا يمكن ان تفهم الى من خلال القراءة الدقيقة والتحليل الرصين، ويبدو ان هذا المنهج ليس مسلك الثبات في رؤيته التحليلية ، فهو ينتقل بين قراءات تحليلة استدلالية وبين سردأ وصفي يغلب عليه الطابع الروائي كما فعل في كتابه (صفحات من الذاكرة الموصلية)، الذي يشد القارئ فيه الى حبك المعنى ودقة الوصف، بل أن لغته البسيطة تدفعك الى الاستمرار في متابعة نصوصه والتفاعل مع محتواه. وقد جاء كتابه الجديد الذي حمل عنوان  (من ارشيف جمهورية العراق الأولى حوادث الموصل وكركوك ، وتداعياتها بين اذار 1959 / 14 تمز 1959 دراسة تاريخية سياسية وثائقية) متمم لهذا الكتاب   
    في هذا الكتاب حاول بوتاني إعادة قراءة أحداث اذار 1959 قراءة موضوعية بعيداً عن التهويل الذي اتبع من قبل أجهزة الإعلام البعثي التي شوهت الحقائق  وزيفت الوقائع.  ليس بهدف الإثارة والادعاء ، وفضح الإساءات ، بل من اجل انصاف وقائع الأيام ورسم الحقائق كما شاهدها الناس  فالمجتمعات لا تستطع بناء نفسها، دون ان تفهم الحقائق كما هي، لتدارك مثالب تواريخها واخطائها التي أوصلت تلك المجتمعات الى ما هي عليه
 يحاول بوتاني ان يعيد الصورة الضبابية التي شوهت معالم الحقيقة الى أصلها من خلال قراءة متأنية لهذه الأحداث، فهو يطرح تساؤلات منطقية . عن أسباب حدوث مثل هذه الاضطرابات ؟ ودور الأجهزة الإعلامية المصرية في تأجيجها وزرع الكراهية داخل بنية المجتمع الموصلي، وتشويه الوقائع وحفها الى هاوية النزاع الدموي. والحق انه نجح في تفكيك الألغاز  بموضوعية الشواهد التي تحدثت عن الجرائم التي ارتكبت بحق الأبرياء، وبين المسئولين عنها، وكان منصفاً في طرحة، فما تعرض له الشيوعيين من تشويه وظلم بفعل الضغط الديني والقومي تسبب في إربك فهم الحقائق عند الكثير من الباحثين، ولعل هذا الكتاب الاول الذي يتحدث بواقعية عن مجريات إحداث اذار، فعين المشاهدة هي برهان القول.
   لقد شوهت الحقائق لأغراض سياسية، وحل بالعراق كوارث متتالية ، فهل نرسم حجم الدمار الذي تعرضت له الموصل بعد وصول البعث بحجم ما تعرضت له في احداث اذار عام 1959؟ وهل سمح للشيوعيين بالدفاع عن نفسهم في بيان الحقائق، فكل ما نقراءه هو من تصنيف البعث وتأليف مؤسسته الإعلامية؟ وما هي الفترة التي حكم بها الحزب الشيوعي لكي نحوك هذا  الحاجز الفاصل لستر الحقائق وإخفائها ؟ لقد تعرض الشيوعين الى السجن والإبعاد والتهديد والوعيد في حكم عبد الكريم قاسم، واستخدمت بحقهم أقسى درجات التعذيب والتنكيل والقتل والتشريد بعد وصول البعث، فكيف نقيس الحقائق اذا كان الحكم المسبق يطرز أحداثه بأنامل نساج التوجيه السياسي لحزب البعث
هذا الكتاب مهم جداً لمن يبحث عن الحقيقة فالرجل صاغ رواياته وجمع احداثه من معاصرين وشهود عيان ووثائق نادرة وفق ذلك يمكن الحكم على هذا الكتاب بأنه وطر المؤرخ ومبتغاه في استلهام الحقائق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق